لم يجد المشركون سبيلا للدخول إلى المدينة، وبقوا ينتظرون أياما وليالي يقابلون المسلمين من غير تحرك، حتى جاء حيي بن أخطب الذي تسلل إلى بني قريظة، وأقنعهم بفسخ الاتفاقية بين بني قريظة والمسلمين، ولما علم الرسول عليه الصلاة والسلام بالأمر أرسل بعض أصحابه ليتأكد من صحة ما قيل، فوجده صحيحا. وهكذا أحيط المسلمون بالمشركين من كل حدب وصوب، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ييأسوا من روح الله، لأنهم كانوا على يقين بأن عين الله ترعاهم. و نفذ نعيم بن مسعود حيلة (من غطفان وكان مقرب من اليهود ، ومقرب من سادات القبائل) فحصل الخلاف بين يهود بني قريظة والاحلاف فلم يفتحوا لهم حصونهم .
استطاع عكرمة بن أبي جهل وعدد من المشركين التسلل إلى داخل المدينة، إلا أن عليا كان لهم بالمرصاد، فقتل من قتل، وهرب من هرب، وكان من جملة الهاربين عكرمة وقتل علي عمرو بن ود اقوي شجعان العرب.
يأس المشركين فتفككت روابط جيشهم ، وانعدمت الثقة بين أطراف القبائل، كما أرسل الله ريحا شديدة قلعت خيامهم، وجرفت مؤنهم، وأطفأت نيرانهم، فدب الهلع في نفوس المشركين، وفكوا الحصار وعادة قريش الي مكة ورجعت باقي القبائل.
لم تكن غزوة الأحزاب معركة ميدانية وساحة حرب فعلية، بل كانت معركة أعصاب وامتحان نفوس واختبار قلوب، ولذلك أخفق المنافقون ونجح المؤمنون في هذا الابتلاء. وتحولت القوي للمسلمين فقال عليه الصلاة والسلام لن تغزوكم قريش بعد هذا بل انتم تغزونهم.
قتال بني قريظة :
بعد الخندق ذهب عليه الصلاة والسلام الي بيته ليرتاح ، فجاءه جبريل علي هيئة رجل من الصحابة فعرفه صلي الله عليه وسلم ، فقال له يارسول الله اوضعت لباس الحرب فقال نعم فقال له ان الملائكة لم تضع لباس الحرب بعد ، ان الله يأمرك بقتال بني قريظة.
لبس عليه الصلاة والسلام لباس الحرب ونادي في الناس من كان يؤمن بالله والرسول فلا يصلي العصر الا في حصون بني قريظة ، فتجمع الناس واتجهوا الي بني قريظة ، اغلق بني قريظة حصونهم ، فناداهم عليه الصلاة والسلام يا اخوة القردة والخنازير ، فتكلموا معه من فوق الحصن يامحمد انت الحليم و انت الكريم ، فقال لهم لا حلم اليوم بعد فعلتكم تنزلون عند حكمي وتستسلمون، فرفضوا ، وبدأ حصار بني قريظة وقذف الله الرعب في قلوبهم.
استمر الحصار تسعة عشر يوم فتعاهدت جماعة من ابطال المسلمين من بينهم علي بن ابي طالب والزبير بن العوام علي مهاجمة الحصن اما ان يفتحوه او يموتوا دون ذلك ، وتحركوا نحو الحصن ، عندما شاهدهم اليهود رأوا الموت وبدأوا يصيحون يا محمد نزلنا عند حكمك وسلموا فتم توثيق الرجال وقتلوا جزاء غدرهم بحكم سعد بن معاذ حليفهم.
تأديب القبائل التي شاركت في الاحزاب :
ارسل صلي الله عليه وسلم محمد بن مسلمة علي راس ثرية وتحركت خفيفة يسيروا ليلا ويخفوا بالنهار حتي وصلوا ديار بني بكر فهجم عليهم فقتل منهم وفر الباقون واستطاع ان يغنم خمسين بعيرا وثلاث الف شاة ولم يتعرض للنساء والاطفال حسب امر الرسول صلي الله عليه وسلم.
و ارسل صلي الله عليه وسلم عكاشة بن محصن علي راس ثرية الي قبيلة بني اسد ، ففاجئهم فهربوا الي الجبال وغنموا وادي ملئ بالابل والغنم وكانت غنيمة عظيمة.
وخرج صلي الله عليه وسلم بنفسه الي بنو لحيان لغدرهم باصحابه ، فلما وصل اليهم كانوا قد فروا فاقام صلي الله عليه وسلم في ديارهم يومين ليثبت عزة الاسلام ، ثم ذهب الي وادي بالقرب من مكة وارسل عشرة فرسان علي رأسهم ابو بكر الصديق فدخلوا حتي وصلوا مكة ثم عادوا و رجع صلي الله عليه وسلم فأنتشر الخبر ان المسلمين غزوا مكة.
في الطريق بين مكة والمدينة نزل صلي الله عليه وسلم عند قرب قديم واخذ يبكي ويبكي لم يره المسلمون هكذا من قبل ، فلما رجع سأله عمر بن الخطاب ، فقال له عليه الصلاة والسلام هذا قبر امي استأذنت ربي ان ازور امي فأذن لي واستأذنته ان استغفر لها ، فلم يأذن لي .
ارسل صلي الله عليه وسلم ابو عبيدة عامر بن الجراح الي بني ثعلبه فباغتهم ابو عبيدة رغم حذرهم بقواته ففروا واخذ غنائمهم واسر احدهم.
ووجه صلي الله عليه وسلم زيد بن حارثه الي بني سليم فهجمت عليهم سرية زيد فأسروا منهم وفر الباقين واخذوا الغنائم ورجعوا.
وارسل زيد بن حارثة علي رأس مائه وخمسون من الفرسان ليكمنوا لقافلة عظيمة لقريش ، فكمنوا لها ثم هجموا عليها واستطاعوا اخذ القافله كلها واسروا من كان معها ، فكانت ضربة قاسية لقريش.
غزوة بني المصطلق :
بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيِّد بني المصطلق سار في قومه، وبعض من حالفه من العرب، يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزو المدينة وقد ابتاعوا خيلاً وسلاحًا، واستعدوا للهجوم على المدينة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بريدة بن الحصيب الأسلمي؛ ليستطلع له خبر القوم، فرجع بريدة وأكد للنبي صلى الله عليه وسلم صحة هذه الأخبار ، فقال صلي الله عليه وسلم بل انا اغزوهم فسار اليهم علي رأس سبعمائة مقاتل لما وصل اليهم كانوا مستعدين فاصطف الجيشان ودعوهم للاسلام فابوا ، فامر عليه الصلاة والسلام بالهجوم وخلال دقائق قتل عشرة من اسياد بني المصطلق وسقطت رايتهم فاستسلموا واسروا جميعا.
اخذت جويرية بنت الحارث بنت سيدهم للرسول صلي الله عليه وسلم ، فدعاها للاسلام فأسلمت فاطلقها وتزوجها ، صار الارقاء اصهار الرسول صلي الله عليه وسلم فاطلقهم الناس اكراما للرسول، فاتت جويرية باعظم خير لاهلها.
حادثة الإفك :
في طريق العودة من غزوة بني المصطلق، حين نزلت من هودجها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقدًا لها، فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعير وهم يحسبون أنَّها فيه. وحين عادت لم تجد الرَّكْب، فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مرَّ بها أحد أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو صفوان بن المعطل رضي الله عنه، فحملها على بعيره، وأوصلها إلى المدينة.. فاستغل المنافقون هذا الحادث، وتولى ذلك عبد الله بن أبي بن سلول، وأوقع في الكلام معه ثلاثة من المسلمين: هم مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمنة بنت جحش.. فاتُّهِمت أم المؤمنين عائشة بالإفك.
وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بما كان يقال إيذاء شديدًا، وصرح بذلك للمسلمين في المسجد، حيث أعلن ثقته التامة بزوجته وبالصحابي ابن المعطل السلمي، وحين أبدى سعد بن معاذ استعداده لقتل من تسبب في ذلك إن كان من الأوس، أظهر سعد بن عبادة معارضته؛ بسبب كون عبد الله بن أبي بن سلول من قبيلته، ولولا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم وتهدئته للصحابة من الفريقين، لوقعت الفتنة بين الأوس والخزرج.
ومرضت عائشة -رضي الله عنها- بتأثير تلك الإشاعة الكاذبة، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الانتقال إلى بيت أبيها، وانقطع الوحي شهرًا، عانى الرسول صلى الله عليه وسلم خلاله كثيرًا، حيث طعنه المنافقون في عِرضه وآذوه في زوجته، ثم نزل الوحي من الله موضحًا ومبرئًا عائشة رضي الله عنها.
ذهب النبي صلي الله عليه وسلم للمسجد وخطب في الناس وقرأ عليهم ايات البراءة ، ثم امر فجلد الثلاث الذين صرحوا بحد القذف.
وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلاً كبيرًا على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، ونبوته في وقت واحد.
صلح الحديبيبة :
في ذوالقعدة السنة السادسة من الهجرة ارسل النبي صلي الله عليه وسلم انه خارج للعمرة من اراد فليخرج معه، فخرج معه المهاجرين والانصار وبعض الرجال من القبائل الاخري وكانوا الف و اربعمائة ، احتاط النبي صلي الله عليه وسلم واخذوا معهم السلاح في الابل ، وخرجوا الي طريق مكة .
علمت قريش بالامر فقالوا والله لا يدخلها علينا وجهزوا جيش وعسكروا خارج منطقة الحرم (لان منطقة الحرم لا يجوز فيها قتال كتي عند المشركين هذه منطقة محرمة) لذلك كانت قريش حريصة علي الا يدخل المسلمون منطقة الحرم لانهم اذا دخلوها لن يستطيعوا منعهم .
جاءت الاخبار ان قريش خرجت بجلد نمور (كانوا القرشين اذا خرجوا للقتال يلبسون جلد النمور) فقال عليه الصلاة والسلام ويح قريش ماذا لو تركون ، ثم قال الا رجل منكم يدلني علي طريق التف وادخل الحرم من خلفهم ، فقال حد الصحابة انا يا رسول الله ، فأخذهم في طريق وعر وصعب واصبحوا خلف جيش مكة هم لا يدرون شئ وساروا في طريق الحرم ولم يبقي سوي خطوات الي منطقة الحرم وظهرت علامات الحرم فإذا بناقة النبي صلي الله عليه وسلم تبرك لوحدها حاول تحريكها فلم تتحرك فقال الصحابة اصابها سوء يارسول الله فقال لا بل حبسها حابس الفيل فنزلوا في ذلك المكان ولم يكن معهم ماء سوي ماء وضوء النبي صلي الله عليه وسلم ، فقال الايوجد بئر فقالوا توجد واحدة ولكنها جافة ، فذهب اليها وتوضأ عليها ثم اعطي سهم لاحد اصحابة وقال انزل في البئر وحك قاعها بطرف السهم ففعل فإنفجر الماء وشربوا، ثم قال عليه الصلاة والسلام لو لانت قريش وطلبت الصلح للرحم الذي بيننا لاخذت منهم.
جاءت الاخبار الي قريش بان محمد التف حولهم وهو الان عند الحرم ، فاقبلوا مسرعين فوجدوا المسلمين قد خيموا خارج الحرم فتعجبوا انه صلي الله عليه وسلم قرب الحرم لو اراد لدخل لم خيم خارج الحرم اذا هو يريد القتال ، ثم شاهدوهم وهم يلبسون لبس الاحرام ثم شاهدوا السلاح، فتعجبوا فأرسلوا لي النبي صليى الله عليه وسلم ليسألوه عن مقصدة ، فأتي الرسول وكان احد سادات القبائل فقال له يا محمد ماذا تريد فقال صلي الله عليه وسلم اريد العمرة فقال له وما هذا السلاح ، فقال له اني اخاف الغدر وهذا سلاح الراكب لندافع به عن انفسنا ، فأقتنع الرجل وذهب ليخبر قريش.
أرسل صلي الله عليه وسلم إلى قريش عثمان بن عفان وقال له: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، وادعهم إلى الإسلام، وأَمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، وأن الله عز وجل مظهر دينه بمكة..
فانطلق عثمان فمر على قريش، فقالوا: إلى أين؟، فقال : بعثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ويخبركم : أنه لم يأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً..
ولكن عثمان احتبسته قريش فتأخر في الرجوع إلى المسلمين ، فخاف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه، وخاصة بعد أن شاع أنه قد قتل، فدعا إلى البيعة، فتبادروا إليه، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا، وهذه هي بيعة الرضوان.
وأرسلت قريش عروة بن مسعود ليعلم ويستطلع امر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم : والله لقد وفدت على كل الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى و النجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله ما إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له.فو الله لو قاتلتموه لايسلمونكم له حتي يقتلوا مثلهم وان قتلوا مثله منكم ما لذة العيش بعد ذلك، فقالوا له ما الراي قال صالحوه.
ثم أرسلت سهيل بن عمر لعقد الصلح ، فلما رآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسلم قال : قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فتكلم سهيل طويلاً ثم اتفقا على قواعد الصلح.
نص الصلح :
باسمك اللهم
هذا ما صلح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو
واصطلحا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين يأمن فيهم الناس ويكف بعضهم عن بعض.
( على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجاً أو معتمراً، أو يبتغى من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله).
على أنه من آتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريش ممن مع محمد لم يردوه عليه.
وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال.
وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب السيوف في القرب ولا تدخلها بغيرها.
وعلى أن الهدى حيث ما جئناه ومحله فلا تقدمه علينا.
وافق الرسول صلى الله عليه وسلم على شروط المعاهدة، التي بدا للبعض أن فيها إجحافا وذلاً للمسلمين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مدركا وموقنا أن هذا الصلح سيكون فاتحة خير وبركة على المسلمين بعد ذلك. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدا المدينة.
تعليقات
إرسال تعليق